فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجاحظ إذ عليهما لا حاجة إليه، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بمعنى يعلمون خلافه فكيون جملة حالية مؤدة لا مقيدة، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة، وقيل: إنهم ما شتموا النبي صلى الله عليه وسلم بناءًا على ما روى «أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فخلفوا» فنزلت.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]» الآية والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضًا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا.
وفي (البحر) رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أمسر قصيرًا خفيف اللحية فقال صلى الله عليه وسلم: «علام تشتمني أنت وأصحابك» فحلف بالله ما فعل فقال له: «فعلت» فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت، والله تعالى أعلم بصحته.
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحرث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي.
والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر: إنه اطلع على أنه تاب، وأما قوله في (القاموس): عبد الله بن نبيل كأمير من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره.
{أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابًا شَدِيدًا} نوعًا من العذاب متفاقمًا {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه.
{اتخذوا أيمانهم} الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة {جَنَّةُ} وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم وخلص المؤمنين؛ قال في (الإرشاد): والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل: تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، وعن سببها أيضًا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى: {فَصَدُّواْ} أي الناس.
{عَن سَبِيلِ الله} في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل: فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل: {صدوا} لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى {الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم، وقيل: الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}
هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي تولّيهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك.
والجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا} [المجادلة: 5] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده.
والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7].
والاستفهام تعجيبي مثل قوله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} [المجادلة: 8].
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولَّوْا قومًا من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإِسلام والمسلمين.
وضمير {ما هم} يحتمل أن يعود إلى {الذين تولوا} وهم المنافقون فيكون جملة {ما هم منكم ولا منهم} حالًا من {الذين تولوا}، أي ما هم مسلمون ولا يهود.
ويجوز أن يعود الضمير إلى {قومًا} وهم اليهود.
فتكون جملة {ما هم منكم} صفة {قومًا} قومًا ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود.
وكذلك ضمير {ولا منهم} يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع.
ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيرًا للمعاني مع الإِيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قومًا أجانب عنهم على قوم هم أيضًا أجانب عنهم، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدّين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقًا، أي ما هم منكم أيها المسلمون، وهو المقصود.
ويكون قوله: {ولا منهم} على هذا الاحتمال احتراسًا وتتميمًا لحكاية حالهم، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء مَن ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق.
{ويحلفون على الكذب} عطف على {تولوا} وجيء به مضارعًا للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه.
والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين.
{وهم يعلمون} جملة في موضع الحال، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.
وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إذَا كشف لهم بعض مكائدهم، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم} [التوبة: 56]، وقوله: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} [التوبة: 62] وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} [التوبة: 74].
قال السدِّي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل (بنون فباء موحدة فمثناة فوقية) كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع أخباره إلى اليهود ويسبّ النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ خبره أو أطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل.
وجملة {إنهم ساء ما كانوا يعملون} تعليل لإِعداد العذاب الشديد لهم، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالًا سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن به المضارع من قوله: {يعملون}.
وبين {يعملون}، و{يعلمون} الجناس المقلوب قَلْب بعض.
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}
جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا عن جملة {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة: 14]، لأن ذلك يثير سؤال سائل أن يقول: ما ألجأهم إلى الحلف على الكذب، فأجيب بأن ذلك لقضاء مآربهم وزيادة مكرهم.
ويجوز أن تجعل الجملة خبرًا ثانيًا لأن في قوله: {إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المجادلة: 15] وتكون داخلة في التعليل.
والجُنّة: الوقاية والسترة، من جَنّ، إذا استتر، أي وقاية من شعور المسلمين بهم ليتمكنوا من صدّ كثير ممن يريد الدخول في الإِسلام عن الدخول فيه لأنهم يختلقون أكذوبات ينسبونها إلى الإِسلام والمسلمين وذلك معنى التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فصدوا عن سبيل الله}.
و {صدُّوا} يجوز أن يكون متعدّيًا، وحذف مفعوله لظهوره، أي فصدُّوا الناسَ عن سبيل الله، أي الإِسلام بالتثبيط وإلصاق التهم والنقائص بالدين.
ويجوز أن يكون الفعل قاصرًا، أي فصدّوا هُم عن سبيل الله ومجيء فعل {صدوا عن سبيل الله} ماضيًا مفرعًا على {اتخذوا أيمانهم جنة} مع أن أيمانهم حصلت بعد أن صدوا عن سبيل الله على كلا المعنيين مراعى فيه التفريع الثاني وهو {فلهم عذاب مهين}.
وفُرع عليه {فلهم عذاب مهين} ليعلم أن ما اتخذوا من أيمانهم جُنّة سبب من أسباب العذاب يقتضي مضاعفة العذاب.
وقد وصف العذاب أول مرة بشديد وهو الذي يجازون به على تولّيهم قومًا غَضِب الله عليهم وحلفهم على الكذب.
ووصف عذابهم ثانيًا بـ {مهين} لأنه جزاء على صَدّهم النّاس عن سبيل الله.
وهذا معنى شديد العذاب لأجل عظيم الجرم كقوله تعالى: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب} [النمل: 88].
فكان العذاب مناسبًا للمقصدين في كفرهم وهو عذاب واحد فيه الوصفان.
وكرر ذكره إبلاغًا في الإِنذار والوعيد فإنه مقام تكرير مع تحسينه باختلاف الوصفين. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 20):

قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان لهم أموال وأولاد يتعززون بها، قال مستأنفًا دالًا على أن من استتر بجنة دون طاعته لتسلم دنياه وراءه تكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينه يبقى ولا دنياه تسلم: {لن تغني} أي بوجه من الوجوه {عنهم} أي في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {أموالهم} وأكد النفي بإعادة النافي للتنصيص على كل منهما فقال: {ولا أولادهم} أي بالنصرة والمدافعة {من الله} إي إغناء مبتدئًا من الملك الأعلى الذي لا كفوء له {شيئًا} أي من إغناء ولو قل جدًّا، فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفد ومضى، لا يدفعه شيء تكذيبًا لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لتكونن أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننصرن بأنفسنا وأموالنا وأولادنا.
ولما انت في الإغناء المبتدئ من الله فانت في بانتفائه كل إغنائه سواه، أنتج ذلك قوله: {أولئك} أي البعداء من كل خير {أصحاب النار} ولما أفهمت الصحبة الملازمة، أكدها بقوله: {هم} أي خاصة لاضمحلال عذاب غيرهم- لكونهم في الهاوية- في جنب عذابهم {فيها} أي خاصة دون شيء يقصر عنها {خالدون} أي مقيمون باقون دائمون لازمون إلى غير نهاية.
ولما كان إفسادهم لذات البين سرًا، وحلفهم على نفي ذلك جهرًا مع الإلزام بقبول ما ظهر من ذلك منهم مع علمه سبحانه وتعالى بأنه كذب غائظًا موجعًا، وكان ربما توهم متوهم أنه تعالى كما ألزم بقبولنا لما ظهر منهم في دار العمل يأمر بقبولهم في دار الجزاء، قال نافيًا لذلك معزيًا للمؤمنين بأنهم يفعلون ذلك معه سبحانه بعد كشف الغطاء وتحقيق الأمور، لأن الإنسان يبعث على ما مات عليه، لأن ذلك جبلته التي لا ينفك عنها، ولا ينفعهم ذلك، ذاكرًا ظرف الخلود وإظهار التعذيب: {يوم يبعثهم الله} أي الملك الذي له جميع صفات الكمال بإحيائهم عما كانوا فيه من الموت وردهم إلى ما كانوا قبله {جميعًا} لا يترك أحدًا منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان عليه قبل موته {فيحلفون} أي فيتسبب عن ظهور القدرة التامة لهم ومعاينة ما كانوا يكبون به من البعث والنار أنهم يحلفون {له} أي الله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، ونحوه من الأكذوبات التي تزيدهم ضررًا، ولا تغني عنهم شيئًا بوجه من الوجوه، جريًا على ما طبعوا عليه من إيثار الهوى والقصور على النظر في المحسوسات التي ألفوها {كما يحلفون} في الدنيا {لكم} لكونكم لا تعلمون الغيب مع توقعهم أن الله يفضحهم كما فعل لهم ذلك مرارًا، وحلفهم ناشئ عن اعتقاد بعدهم من القبول فإنه لا يحلف لك إلا من يظن أنك تكذبه: قال القشيري: عقوبتهم الكبرى ظنهم الأجنبية، وغاية الجهد كبهم على مناخرهم في وهدة ندمهم.